الأحد، 26 فبراير 2012

المبادئ العامة لتحقيق المخطوطات وإحياء التراث

التحقيق هو "بذل الوسع والجهد لإخراج النص التراثي مطابقا لحقيقة أصله نسبة ومتنا، مع حل مشكلاته وكشف غوامضه"اهـ.
وإذا كان التحقيق كما سبق، فإن المحقق في أمس الحاجة إلى بعض المعالم المنهاجية والمبادئ الأساسية العامة وهي كالآتي:
1-الاختيار:
إن أول عمل يجب أن يقوم به من يريد الاشتغال على التحقيق، أن يختار مخطوطا في تخصصه، أو ما له صلة بتخصصه وعلمه؛ لأنه يكون بذلك قادرا على فهم الكتاب المحقق، ويمكنه إخراج المخطوط بأقرب صورة للصواب، بل يستدرك على المصنف، ويعيد إلى الجادة ما خالف فيه الصواب؛ وفي هذا إفادة كبيرة وإجادة وإتقان للعلم، وبعد عن الخطل والزلل.
2- جمع النسخ:
بعد أن يستقر الباحث على مخطوط معين، عليه التوجه إلى البحث عن نسخ أخرى لهذا المخطوط، في باقي الخزانات الوطنية أو الخاصة... وذلك عن طريق الفهارس وقوائم المكتبات، وسؤال أهل الاختصاص والصنعة والمتتبعين، ليحشد الباحث أكبر عدد من النسخ؛ وإن لم يستطع الوصول إليها في الوقت المناسب فليقابل وليصحح فور حصوله عليها.
وإن الاقتصار على نسخة واحدة أو نسختين، مع وجود عدد من النسخ في المتناول لهو عجز وتقصير.
أما إذا لم يتيسر للباحث إلا الحصول على نسخة واحدة سليمة بالجملة أو بعضها ويمكن له إخراج المخطوط أو قسم منه فلا يتوان عن ذلك قبل أن يتعرض للتلف والضياع، فتضيع معه الفائدة والمنفعة.
3- الفحص والتقويم:
بعد حصول الباحث على نسخ من المخطوط المختار، يقوم بعد ذلك بفحصها وتقويمها؛ وذلك بالتأكد من عنوانها ومؤلفها ومطابقة العنوان للمضمون. وأجدر النسخ بالتقديم هي نسخة المؤلف التي كتبها بخط يده أو قرئت عليه وعليها خطه، ثم تليها النسخ الموثقة المنقولة عنها ولو كانت بعيدة التاريخ عنها. والنسخ التي عليها خطوط العلماء البارزين في العلم الذي يبحثه المخطوط، وللأقدمية الموثقة أهمية لا تنكر.
وليعط المحقق لكل نسخة يستعملها رمزا معينا مثل: أ، ب، ت... وليبرز ذلك في صدر النص المحقق، أو أثناء الدراسة.
ومما يحسن بالمحقق أن يقرأ النسخة من أولها إلى آخرها ليفك رموز الكتابة فيها ويعرف مصطلحات المؤلف والناسخ. ومن المعلوم أن الكتابات قديما كانت تختلف في عدة خطوط، فمن الكوفي، إلى النسخي، إلى الرسم للكلمة والحرف، وخلاف كذلك في الشكل والأحجام؛ فالخط المغربي مثلا تكتب فيه النقطة في الفاء أسفله، وفي القاف نقطة واحدة فوقه...
4- نسخ الكتاب ومقابلته:
ويكون نسخ الكتاب على أحسن النسخ المتوفرة بشكل واضح، مقسما له في كَلِمِه وجمله وفصوله وأبوابه، مستعملا في ذلك علامات الترقيم والرموز الحديثة من النقطتين، والفاصلة، والتعجب، والاستفهام، وكل ذلك ييسر القراءة على القارئ، مبرزا ما ينبغي إبرازه من ذلك، متوخيا تمام المعاني وأحسن وجوه العربية.
كما ينبغي أن يكون حذرا مما يكون قد سقط من أوراق في المخطوط المحقق، مستعينا في ذلك إما بالترقيم إن كان، أو بما كان مستعملا عند الأقدمين من كتابة كلمة في ختام الصفحة من الجهة اليسرى وهي الكلمة الأولى في الصفحة التالية وتسمى التعقيبة ويسميها المغاربة الرقاص.
ويجب أن يكون المحقق دقيقا في النسخ، يقظا للرموز التي يستعملها العلماء.
وأحيانا يكتبون الكلمة كلها –أي المشكلة-في الحاشية ويكتبون فوقها (بيان) أو (ن) اختصارا لكلمة بيان.
ومما يحافظ عليه، ويثبت مع النص في الحواشي والتعليقات، ما يجده من طرر وتعليقات لبعض العلماء فليحافظ عليها كما هي.
ويدخل في هذا أسانيد النسخة وسماعات العلماء عليها، وإضافاتهم للطباق في آخر أجزائها أو آخرها.
وليترجم المحقق لأصحاب السماعات إن استطاع ليعرف قدرهم ومكانهم في العلم الذي درسوه وتعلقه بمضمون المخطوط.
5- ضبط النصوص وتخريجها:
بعد الاطمئنان إلى نقل النسخة نقلا صحيحا كاملا، يبدأ المحقق بضبط النصوص وتخريجها بدءا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، مرورا بالأمثال، والأماكن والوقائع والأيام، واللغات والأعلام... ويستعين في هذا بكل كلمة بمعجمها مثل: كتب الطبقات والتراجم والأعلام البشرية والقبائل، وكتب الأمكنة والأزمنة والبلدان، وغير ذلك مما له صلة بمعجم المخطوط. وأن لا يهمل المحقق جانبا مهما من الكتب المعتبرة مثل كتب النبات والنخل والخيل والحيوان والجغرافيا والأحجار....
ومما ينبغي أن يتبعه المحقق الإيجاز والاختصار في تراجم الرجال، والأسانيد، لأننا لو ترجمنا وطولنا لكل واحد في الإسناد وذكرنا كل ما قيل فيه لطال الكلام ومل القارئ وغابت الفائدة، بل يكتفى في هذا بالقليل المعبِّر، والكلمة المحكمة الدالة، ويشار إلى أهم المصادر التي ترجمت إلا في التراجم النادرة العزيزة، فيذكر مصادرها على الاستقصاء.
ويحسن بالمحقق مقابلة النصوص التي اقتبسها المؤلف مع مصادرها وإرجاعها إلى أصولها، وخاصة ما يتعلق بالأحكام الشرعية، وأقوال الأئمة والفقهاء والمجتهدين، وكذلك المواد اللغوية، والأمثال السائرة والأبيات الشعرية، وليرجع بها إلى مصادرها الأصلية أو إلى أقرب طبقة من مصنفيها، ولا يلجأ إلى مصدر ثانوي لتخريج النصوص أو اقتباسها مع وجود الأصول.
وليترجم للمذكورين من العلماء والأئمة غير المشهورين الذي يذكرون على كل لسان، تراجم موجزة لا تشغل بال القارئ ولا تلفته عما هو بصدده من استيعاب النص، ولا يقصر فيها إلى حد الإجحاف وعدم الكفاية، والأمر يجب أن يكون وسطا بحسب المقام.
وينبغي أن يشرح المحقق الغامض، وييسر الصعب، ولكنه لا يصل إلى حد الابتذال، وتضعيف لغة النص المحقَّق، بل يجب أن تكون بمستواه أو قريبة منه؛ وكذلك لا تكون تعليقاته بلغة حوشية صعبة تحتاج إلى تيسير...
6- نقد النص وفحصه:
وبعد ذلك يعيد المحقق قراءة النص قراءة واعية ليستوعبه، ويقف منه موقف الناقد الفاحص. فالكمال لله تعالى ، والعصمة لرسله الكرام عليهم الصلاة والسلام. وفي هذه القراءة الواعية يتتبع الكتاب في مضمونه، وأسلوبه: فما بدا له فيه خلاف الحق بينه بالحجة، وما تأكد أن واضع الكتاب قد اخطأ فيه فليذكره، وما كان محتملا فهو بالخيار، فإن شاء بينه وإن شاء تركه، وليذكر أن المسألة خلافية.
وإن قصر المؤلف في المسائل ولم يستوفها فليكملها، ويضيفها في تعليقاته وإفاداته. وإن كانت الفكرة التي يعرضها المصنف طويلة متشابكة، فيمكنه أن يلخصها ويبين معاقدها، وإن كانت غامضة وضحها وجلاها بعبارات مركزة.
ومما ينبغي كذلك، أن تكون التعليقات والتصويبات والإضافات مكملة للنص موضحة لما فيه، متممة لفوائده، وليست استطرادات بعيدة، وتكثرات غير سديدة، يلتقط الكلام من هنا وهناك ليطيل الحواشي، ويوهم القراء بكثرة المعرفة!! كل هذا يعطي عكس فائدة التحقيق، ولا يحقق الغرض المقصود.
7- الدراسة:
وبعد إتقان التعليق على النص وإكماله، يجب أن يدرسه دراسة كافية وافية. وتختلف هذه الدراسة باختلاف الموضوع والكتاب؛ إلا أنها بصفة عامة تنصب على الأمور التالية:
أ-مقدمة يسيرة عبارة عن تمهيد أو توطئة لينساب القارئ مع الدراسة والتحقيق بشكل مناسب، ويكون في مطلعها حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. وتذكر فيها أهمية الكتاب وقيمته العلمية وماذا يضيف إلى معلوماتنا.
ب-المؤلف بالترجمة له، والتعريف به، وبمكانته العلمية، وعطائه وآثاره، في إطار زمانه ومكانه.
ت-الكتاب، بتوثيق نسبته إلى مؤلفه، وتحديد الصحيح من اسمه، والروايات والطرق التي روى بها.
ح-التعريف بمخطوطات الكتاب تعريفا دقيقا، كل واحدة على حدة، مع بيان موضع وجودها، ورقمها، وعدد صفحاتها، وكمالها أو نقصانها، وتاريخ نسخها، والتعريف بناسخها ورواتها..
وإن كان الكتاب قد سبق طبعه فليذكر ذلك إن علمه، تاريخا، ومكانا، ومحققا، مبينا أسباب إعادة تحقيقه، مع التدليل على ذلك بأمثلة.
خ-بيان الخطة المتبعة في التحقيق، وشرح الاصطلاحات والرموز التي استعملها المحقق.
ج-دراسة الكتاب وتقويمه، وتتناول الدراسة عدة أمور كذلك وهي:
1-مضمون الكتاب ومدى الحاجة إليه.
2-مدى استيفائه للموضوع الذي هو بصدده.
3-من سبقه بالتأليف في هذا الموضوع.
4-مقارنته مع سابقه إن أمكنه وبيان وجه تميزه عن المصنفات في بابه.
5-مدى تأثيره فيمن جاء بعده، وما أسداه للعلم والمعرفة.
6-نقاط القوة والضعف فيه، والدلالة عليها، وخاصة الأخيرة.
7-خلاصة آرائه وفكرته، في خطوط عريضة، وإلى أي حد وفق فيها.
8-كيف يمكن الاستفادة من هذا المخطوط.
8- الفهارس والكشافات:
وفي الختام لابد للمحق من صنع الفهارس والكشافات، وهي التي تيسر الانتفاع بالكتاب؛ فبمقدار شموليتها ودقتها وتنوعها، يكون الكتاب سهل المتناول، قريب المأخذ، عام النفع. وتختلف نوعية الفهارس بحسب موضوع الكتاب ومادته، إلا أن هناك فهارس ثابتة يحتاج إليها في جميع الكتب، وهي:
- فهرس الآيات القرآنية الكريمة.
- فهرس الأحاديث النبوية الشريفة.
- فهرس الأعلام المترجمين والمذكورين في النص.
- فهرس المصادر والمراجع التي استعان بها المحقق مع بيان مؤلفيها وطبعاتها.
- فهرس الموضوعات التي وردت في الكتاب بحسب وضع المؤلف.
ويمكن أن يضاف إلى هذه الفهارس، بحسب الكتاب، فهارس للأمور التالية:
-فهرس للأيام والغزوات.
- فهرس للأماكن والبقاع.
- فهرس للقبائل والأقوام والجماعات والفرق.
- فهرس للموضوعات الفقهية والأصولية.
- فهرس للكتب التي استمد منها للمؤلف وذكرها في كتابه.
- فهرس للأمثال والأقوال المأثورة.
9- حُسن الإخراج والطباعة:
بعد كل المراحل السابقة والخطوات المتتالية المذكورة، التي نرى أنها ضرورية وأساسية لإعادة الحياة إلى كثير من الأفكار التي صنعت هذه الأمة، فأثرت في البشرية وبنت ثقافتها وعمرانها وأمدتها بكثير من جوانب استمرارها على مدى قرون وأجيال، لا يبقى إلا الإخراج الجميل، والطباعة الأنيقة الدقيقة لهذا العمل الذي قد تأخذ الصفحة الواحدة منه أياما وليالي، يدقق كلمها ويصحح خطأها، وينقد مضمونها، أو يضيف ما يتمم به سقطا أتت عليه أرضة، أو عدا عليه مجلِّد جهول للكتاب المخطوط.
إن عمل التحقيق لابد أن يقوم على ثلاث ركائز ليكون مستكملا حضوره واستمراره:
أولها: الرغبة الصادقة في التحقيق وإحياء التراث.
ثانيها: الأمانة العلمية، والاحتياط الشديد في التعامل مع النص المحقق.
ثالثها: الصبر الجميل، والأناة الشديدة في التعامل مع النص المحقق حتى يخرج من المطبعة وبعد خروجه منها.
وقبل هذا كله شعور الباحث أنه يسدي خدمة للكلمة الإسلامية، وللأجيال الحاضرة والقادمة، ابتغاء وجه الله.
10-بعض الرموز المستعملة في المخطوطات:

[هذا ما اختصرناه ولخصناه عن سعادة الأستاذ الدكتور فاروق حمادة].
وختاما هذه مجموعة من الروابط فيها فوائد كثيرة يمكن للطالب أن يرجع إليها ويستفيد منها:
-سلسلة منهاج البحث، تقديم محمد رامى ويستضيف الدكتور عمار امين الددو:
-تحقيق التراث، عبد الهادي الفضيلي:
- قواعد تحقيق المخطوطات، صلاح الدين المنجد:
-فن فهرسة المخطوطات (مدخل وقضايا)، فيصل الحفيان:
-المرشد الوثيق إلى مراجع البحث وأصول التحقيق، جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين - عدنان بن سالم الرومي:
-المنهاج في تأليف البحوث وتحقيق المخطوطات، محمد التونجي:
-أصول كتابة البحث وقواعد التحقيق، مهدي فضل الله:
- صيانة المخطوطات علما وعملا، مصطفى السيد يوسف:
-محاضرات في تحقيق النصوص، هلال ناجي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق