الخميس، 21 أبريل 2011

الوسطية والاعتدال في مراحل تشريع القتال



إنَّ مِن سُنن الله - تعالى - في عباده "سُنة التدرُّج"، ولهذا فقد أخَذَ بها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واقْتفَى أثرَها، سواء في دعوته بمكَّة، حيث كانت الدعوة سِرًّا، ثم تدرَّج وانتقل من الدعوة السِّريَّة إلى الدعوة الجهريَّة إلى طلب النُّصرة من القبائل، والبحث عن سندٍ اجتماعي للدعوة، كذلك التدرُّج في تصحيح العقيدة.
أمَّا في المدينة فقد كانتْ هذه السُّنة الإلهية جليَّة لاحبة في بناء الدولة والتربية، وهكذا كان - عليه الصلاة والسلام - يسيرُ ويتحرَّك وفقَ سُنن الله الاجتماعية.
وممَّا يؤكد الأخْذ بسُنة التدرُّج: تشريع الجهاد القتالي الذي مرَّ بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الكفُّ والإعراض والصَّفْح، وإعداد النفس قبلَ خوْض المعارك، وذلك حتى تستطيعَ الفِئة المؤمنة الثباتَ في ساحة القتال، فكان الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصِي أصحابَه بالصبر والتؤدة، وعدم مواجهة الكفَّار والمشركين؛ قال الحق - تعالى -: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]؛ أي: "{وَلَمَنْ صَبَرَ} على ما يناله مِن أذَى الخَلْق {وَغَفَرَ} لهم، بأن سمح لهم عمَّا يصدر منهم، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}؛ أي: لمن الأمور التي حثَّ الله عليها وأكَّدها، وأخبر أنَّه لا يُلقَّاها إلاَّ أهلُ الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يُوفَّق لها إلا أولو العزائم والهِمم، وذَوُو الألباب والبصائر.
فإنَّ ترْك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل أشقُّ شيء عليها، والصبرُ على الأذى، والصفح عنه، ومغفرته، ومقابلته بالإحسان - أشقُّ وأشق، ولكنَّه يسيرٌ على من يسَّره الله عليه، وجاهد نفسَه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبدُ حلاوتَه، ووجد آثاره، تلقَّاه برحب الصدر، وسَعة الخُلق، والتلذُّذ فيه"[1].
وقال عزَّ مِن قائل: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 88-89]؛ أي: "اصفحْ عنهم ما يأتيك مِن أذيتهم القوليَّة والفِعلية، واعفُ عنهم، ولا يبدر منك لهم إلاَّ السلام الذي يُقابِل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين"[2].
وقال - جلَّ ذِكْره -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثـية: 14]؛ أي: "يأمر - تعالى - عبادَه المؤمنين بحُسن الخُلق، والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيَّام الله؛ أي: لا يرجون ثوابَه، ولا يخافون وقائعَه في العاصين، فإنَّه - تعالى - سيجزي كلَّ قوم بما كانوا يكسبون، فأنتم - يا معشرَ المؤمنين - يجزيكم على إيمانكم وصَفْحكم وصَبْركم ثوابًا جزيلاً"[3].
وعن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مُتوسِّد بُردة، وهو في ظِلِّ الكعبة، وقد لَقِينا من المشركين شدَّة، فقلت: ألاَ تدعو الله، فقَعدَ وهو مُحمَّر وجهُه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بمشاط الحديد ما دون عِظامه من لحم أو عَصَب، ما يَصرِفه ذلك عن دِينه، ويُوضع المِنشارُ على مَفرِق رأسه، فيُشق باثنين ما يصرِفه ذلك عن دِينه، وَلَيُتِمنَّ الله هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت[4] ما يخاف إلاَّ الله))[5].
كما اتَّجه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه المرحلة إلى تربيةِ النفوس، وتصحيح العقيدة وتنقيتها ممَّا شابَها من رذائل ومنكرات، ولعلَّ الحكمة في هذا مراعاةُ سُنن التدرج، التي تؤتِي ثمارَها في كل وقت وحين بإذْن ربها، ولو أُمِروا بالقتْل قبل أن يشتدَّ عُودُهم، وتصفو نفوسهم وهم قلَّة تكالبَ عليهم الأعداءُ من كلِّ حَدَب وصَوْب - لكان ذلك سببًا للقضاء عليهم؛ ولهذا كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على وعيٍ تامٍّ وإدراك بأهمية التخطيط والتؤدة، واستقراء الأحداث، ومراعاة سُنة الله في حركاته.
المرحلة الثانية: الإذن بالقتال من غير إلزام؛ قال الحقُّ - سبحانه وتعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
أُبِيح لهم القتالُ دفاعًا عن النفس، فبدأ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإرْسال السرايا والخروجِ للغزوات؛ فكانت السرايا الأولى - وهي ثلاثة - في شهر رمضان وشوال وذي القعدة، وبعدَها بدأتِ الغزوات في السَّنة الثانية من الهجرة، فكانت أوَّلُ غزواته غزوةَ ودان[6] وغزوة العشيرة[7].
المرحلة الثالثة: فُرِض عليهم قتالُ مَن قاتلهم، أو اعتدى عليهم، أو وقف في طريق دعوتهم، أو ظَهَر منه قصْدُ العدوان ببينة ثابتة؛ قال الله - جلَّ ذِكْره -: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 90-91]، وقال - جلَّت عظمتُه وتقدَّست كلماتُه -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وقال - تبارك وتعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]؛ أي: "شِرْك وصدٌّ عن سبيل الله، ويُذعنوا لأحكام الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، فهذا المقصودُ من القِتال والجهاد لأعداء الدِّين، أن يُدفع شرُّهم عن الدِّين، وأن يُذبَّ عن دين اللَّه الذي خَلَق الخَلْق له، حتى يكونَ هو العالي على سائر الأديان"[8].
وبعدَ كل ذلك: "أَمَر الله - عزَّ وجلَّ - المسلمين بقتال المشركين لصدِّ عدوانهم، وإزالة الفِتنة عن الناس، حتى يستمعوا النداءَ الحق من غير عائق، وحتى يَرَوا نظام الإسلام مطبَّقًا؛ ليعرفوا ما فيه مِن عدل وإصلاح لحياة البَشَر"[9].
وقال - سبحانه وتعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وعلى هذه المرحلة الأخيرة، استقرَّ أمْرُ القِتال في الإسلام، ولهذا كَتَب الصِّدِّيقُ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن يَحثُّهم على الجهاد في سبيل الله، قال بعدَ أن حَمِد الله، وأثنى عليه: "سلام عليكم، فإنِّي أحمَد الله إليكم الله الذي لا إله إلاَّ هو، أمَّا بعد، فإنَّ الله - تعالى - كتَبَ على المؤمنين الجهادَ، وأمرهم أن يَنفِروا خفافًا وثقالاً، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والجِهادُ فريضةٌ مفروضة، والثواب عند الله عظيم، وقد استنفرَنا إلى جهاد الرُّوم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وقد حَسُنت نيَّتهم، وعظمُت حسنتُهم، فسارِعوا إلى ما سارَعوا إليه، ولتحسن نيَّتُكم فيه، فإنَّكم إلى إحدى الحُسنيَين: إمَّا الشهادة، وإمَّا الفتح والغنيمة، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - لم يرضَ من عباده القَوْل دون العمل، ولا يزال الجهادُ لأهل عداوته حتى يَدينوا بدِين الحق، ويُقِرُّوا لحُكم الكتاب، حَفِظ الله دِينَكم، وهَدَى قلوبَكم، وزكَّى عملَكم، ورزقكم أجْرَ المجاهدين الصابرين"[10].
ومجمل القول:
فلكلِّ حالة من أحوال الأمَّة حُكمُها، يُفرَّق فيها بين حال القوَّة وحال الاستضعاف، فيُقرِّر فقهاؤنا الأفاضلُ، وعلماؤنا الجِلَّة لكلِّ حالٍ ولكلِّ مرحلة ما يُوافِقها، وَفْقَ سُنَّة الله في التدرُّج، كما رأيْنا في مراحل تشريع الجِهاد القتالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "تفسير السعدي" (ص: 760).
[2] "تفسير السعدي" (ص: 770).
[3] "تفسير السعدي" (ص: 776).
[4] حضرموت: اسم مركب تركيبًا مزجيًّا، "ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تُعرف بالأحقاف، وبها قُبِر النبي هود – عليه السلام - وبقربها بئر بَرَهَوت، وبين حضرموت وصنعاء اثنان وسبعون فرسخًا، وقيل مسيرة أحد عشر يومًا؛ "معجم البلدان"؛ لياقوت الحموي، باب الحاء والضاد حرف الحاء (2/270).
[5] صحيح الإمام البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي  - صلَّى الله عليه وسلَّم -  وأصحابه من المشركين بمكَّة، (ح: 3852).
[6] ودان: موضع بين مكة والمدينة، قرية جامعة من نواحي الفُرْع، بينها وبين هَرْشَى ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة، وهي لضمرة وغفار وكنانة؛ "معجم البلدان"، باب الواو والدال وما يليهما، حرف الواو (5/365).
[7] العشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع؛ "مراصد الاطلاع" (2/943)، "معجم البلدان، باب العين والشين حرف العين (4/127).
[8] "تفسير السعدي" (ص: 321).
[9] "منهج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الدعوة"؛ محمد أمحزون، (ص: 248).
[10] "تاريخ فتوح الشام"؛ أبو زكريا يزيد بن محمد الأزدي، (ص: 8)، "تهذيب تاريخ دمشق الكبير"؛ ابن عساكر، (1/129).
بقلم: أ.د/أبو اليسر
Read More

الزلفى والإرشاد إلى أنواع الجهاد


معنى الجهاد:
الجهاد هو: أن يكون كلُّ فرد من أفراد الأمة المسلمة في بذل جهد مستمر صباحَ مساءَ؛ ليحيا الإسلام، وتقوى شوكة المسلمين، وتنتشر الدعوة الإسلامية في العالمين، وينالوا رضا الله يوم الوقوف بين يدي خالق الخلائق أجمعين، بتزكيتهم لنفوسهم واهتمامهم بمصير أمَّتهم.
فكلُّ الجهود التي يبذلها الفرد المسلِم والجماعة المسلمة لخدمة المجتمع، سواءٌ من جانبه التربوي أم الاقتصادي، أم الاجتماعي أم الثقافي، أم السياسي أم العلمي، أم العمراني - جهادٌ مشروعٌ؛ كصيانة دين المسلم، أو نفسه، أو عِرضه، أو ماله، أو عقله... أو السعي لتوحيد الصف المسلم واسترجاع ما سُلِب واغتصب من هذه الأمة من حقوق مشروعة، من شورى وعدل... أو السعي لرفع الظلم عن الشعوب التي ترزح تحت استبداد الظَّلَمة، وتوفير العمل والإنتاج وازدهار الاقتصاد، وتحقيق الأمن والتكافُل الاجتماعي في أوقات السلم والحرب؛ كل هذا جهاد.
أنواع الجهاد:كما سبق أن قلتُ: إن الجهاد لا ينحصر في نوع واحد فقط، بل تتعدَّد أنواعه، أُجمِل أهمها في:1- جهاد النفس: إن المقصود بجهاد النفس في ذات الله يعني حملها على الإقبال على الله - عز وجل - وهجرها ما طُبعت عليه من الغفلة والبعد عن جادة الصواب، فجهاد النفس هو جهاد الهوى، وجهاد ما في بواطننا من خبائث وأدران، وتطهيرها؛ لكي تسلم من الآفات والشبهات والشهوات، حتى تكون أهلاً للفيض الإلهي، والمدد الرباني.
2- الجهاد بالمال: فالجهاد بالمال فيما يتعلَّق بالفرد هو تطهير الإنسان المؤمن من عاهة الشُّحِّ، وهو الخطوة الأولى في طريق الفوز والفلاح؛ قال الباري - جل جلاله -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أما فيما يتعلق بالأمة فهو توفير المال اللازم لكل أبواب الجهاد وأنواعه.
3- جهاد التعليم: الجهاد التعليمي هو إخراج الأمة من دياجير ظلام الجهل إلى نور العلم، وتعليمها دينها وشَرْع ربها، وحقوقها المشروعة، كما علمها سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - الذي بُعث معلِّمًا، وكما علَّمها أصحابه من بعده - رضوان الله عليهم جميعًا.
4- جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: معناه ومضمونه الذود عن الشريعة الغرَّاء، والسهر على إقامة حدود الله - تعالى - وتثبيت أركان الدين في نفوس الناس، والمراقبة الشديدة على تطبيق الشريعة.
5- جهاد الكلمة والحجة: أو الجهاد البياني؛ وأعني به: بذل الجهد باللسان وبالقلم ضد كل انحراف، وضد كل من يناوئ الإسلام من المخرِّبين فكريًّا ومن الممسوخين عَقَديًّا، أصحاب الفلسفات الكافرة والجدليات الملحدة.
6- جهاد التعبئة والبناء: إن المقصود بجهاد التعبئة والبناء هو تعبئة الأمة وتعليمها ما أمر الله - تعالى - به؛ بأن تكون منها جماعة مجاهدة، واجبها الأول إنكار المنكر الأول - وهو الحُكْم بغير ما أنزل الله - وتبذل المساعي والجهود في  إقامة دين الله في الأرض، وتطبيق كتابه المنزل على نبيه وصفوة خلقه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبناء مجتمع العمران الأخوي المسلم.
فجهاد البناء إذن: هو نقض معاقل الكفر وهدم صروح الباطل؛ لبناء جيل مؤمن، وعقلية مؤمنة، ونمط حياة ومقوماتها.
7- الجهاد السياسي: هو بذل الجهد لتكون دعائم الدولة على أسس من مبادئ الإسلام، وقواعده العامة الشاملة، وباختصار: أن تكون الحاكمية فيها لله - سبحانه وتعالى - وحده.
8- جهاد الكفر والفقر: وأقصد بجهاد الكفر والفقر: محاربة الكفر الذي انتشر في مجتمعاتنا انتشار النار في الهشيم، فمعركة الحق ضد الباطل يفصل فيها طرد دعاة الكفر، كل الكفر: كفر الرأسمالية التي ديدنها الابتزاز، وكفر الإيديولوجية التي تخفي وراء الشعارات البرَّاقة وجهَها الحقيقي، وفداحة كفرها وكفر الطبقية، طبقية حكام الجبر الجاثمين على صدر الأمة، المستأثرين بالسلطان والمال واللذة، والعباد والبلاد، ومتاع الحياة الدنيا، بمحاربة كفر الطبقية والرأسمالية والإيديولوجية يتمُّ القضاء على الفقر أخي الكفر.
9- الجهاد الاقتصادي: وهو بذل الجهد لتحقيق القوة الاقتصادية، وإنعاش الاقتصاد، وتحقيق الكفاية المادية للأمة الإسلامية.
10- جهاد التَّوحيد: هو بذل الجهد لتوحيد الأمة الإسلامية؛ إذ الأصل فيها التوحد لا التفرُّق والتشرذم؛ قال الله - جل جلاله -: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، فعلى هذا، فوحدة دار الإسلام ضرورة ملحَّة، وواجب شرعيٌّ، وأملٌ عزيز، ووحدة الأمة المسلمة ووحدة قيادتها هما شرطا القوة ومصدر العزة لمواجهات التحديات المعاصرة والمخطَّطات الجاهلية.
11- الجهاد القتالي: أقصد بالجهاد القتالي: بذل الجهد عن طريق المدافعة أو القتال في حماية دار الإسلام ودعوة الإسلام، ودين الله - عز وجل - وإزالة الحواجز والعقبات من طريق الدعوة الإسلامية؛ حتى تبلِّغ كلمتها إلى العالم، وردع المعتدين ومنعهم من الأذى والفساد.
وشمولية معاني الجهاد يجعل ترجمته إلى اللغات الأخرى أمرًا صعبًا وضارًّا، حيث تفرغه تلك الترجمة من مضمونه ومعناه السامي، وتشوِّه معناه؛ كما حدث لترجمته إلى اللغة الإنجليزية التي أطلقت عليه اسم الحرب المقدسة (Holy War)، حيث عمَّمت بابًا واحدًا من أبوابه الكثيرة، أو نوعًا واحدًا من أنواعه المختلفة، وسدَّت باقي أبواب الجهاد، وطمست بقية الأنواع.
مسك الختام:
إذًا؛ فلا يقلِّل من مكانة الجهاد وشأنه إساءة بعض الناس توظيفه، أو ابتذاله للمصطلح باعتبار أن القِيَم لا ينقضها من أساء فهمها، ولا يهدم صرحها من أراد انتهاكها، وإلاَّ لما بقيت قيمة على وجه الأرض.
Read More

مواصفات السنن الإلهية



إن مواصفات السُّنن القرآنية تُعنَى بمميِّزاتها الشكلية؛ بحيث لا يعزُب عن ذي لُبٍّ أن القرآن الكريم يتَّصف بمواصفاتٍ ربَّانية، وخصائص ثابتة كما جاء في آياته البيِّنات، وحيث إن سنن الله - عز وجل - نستخرجها ونستنبطها من القرآن الكريم، فلا غرو أن تكون مواصفاتها وخصائصها ومميزاتها كالقرآن الكريم.
ومواصفات سنة الله وخصائصها ومميزاتها التي تميَّزت بها أنَّى وُجِدَت، وُجِد الصدق والعدل، وحيثما حلَّت حلَّ الصدق والوفاء، وتبقى كلمات الله دائمًا هي العليا.
ونجمل مميزات وخصائص ومواصفات سنن الله في أربع مميزات وخصائص:
1- الصدق.
2- العدل.
3- العلو والرفعة.
4- القول الفصل.
نقف مَلِيًّا مع هذه المواصفات لنسلِّط عليها بعض الأضواء لنستضيء بنورها:
1- الصدق:
قال الحق - جل وعلا -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال - جل ذكره -: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
إنَّ صدق سنن الله يعني: "وقوع مضمونها من حيث كونه خبرًا لسبق علم الله به، وكونه في الكتاب مسطورًا، ولنفي الله إخلافَ الوعد وذمه للمخالفين له، ومع كل هذا وذاك فالله فعَّالٌ لما يريد، ما فعل هذا جبرًا، ولا فرض عليه فرضًا، إنما حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرمًا بين مخلوقاته من إنس وجانٍّ، ومضت كلماته التامَّات لا تحابي أحدًا، ولا تميِّز بين رفيع ووضيع، ولا بين طويل وقصير، ولا بين أبيضَ وأسودَ، ولا بين غنيٍّ وفقير؛ إلا بالتقوى، وبمقتضى دلالات كلمات الله المتميِّزة بميزتي الصدق الذي لا يشوبه باطلٌ، والعدل الذي لا يشوبه ظلمٌ أو استبداد"[1].
ويظهر هذا الصدق جليًّا في الوعود القرآنية؛ قال الحق - جل وعلا - لنبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وتمضي الأيام ويتحقَّق الوعد القرآني بعد بضع سنين من نزول الآية، فعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكَّة فاتحًا منصورًا، بعدما خرج منها مهاجرًا إلى المدينة.
وقال الباري - سبحانه وتعالى -: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20]، فتحقَّق الوعد القرآني بفتح مكة وهي الغنيمة المعجلة، ثم تتالت باقي الوعود في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من الفتوحات الإسلامية التي جعلها الله على أيديهم، ويبقى الوعد مفتوحًا إلى آخر الزمان، ويدخل في {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} كلُّ الغنائم التي سيغنمها المسلمون إلى يوم القيامة.
2- العدل:
إنَّ البشرية ترنو دائما "إلى إيجاد قوانين تتَّصف بالعدل، وتنفي الظلم والجور، وكم يكون مصاب البشر أليمًا عندما يجدون القوانين التي يرجونها لإقرار العدل والإنصاف تقنِّن الظلم، بحيث يكون هو النظام الذي يحكم في رقاب العباد!
إنَّنا لا نريد بالعدل تطبيق القاعدة القانونية؛ فجور القاضي وظلم الحاكم في الحكم بخلاف القانون ليس هو المراد هنا، بل المراد هو اتصاف القانون بالعدل.
إن الذين يضعون القوانين البشرية لا يمكنهم أن ينسلخوا من طبائعهم البشرية؛ ولذلك نراهم يميلون بالقوانين تجاه الفئة الحاكمة، فتعطى من المصالح والمنافع ما لا يعطى غيرها، وهي في هذه الحالة تقرِّر الظلم وهي تعلم بذلك، وفي بعض الأحيان تضع القوانين الظالمة بسبب جهلها بالعدل الذي يجب أن تقنَّن، فواضِعُو القوانين البشرية بشرٌ فيهم ظُلْم وجهالة، وبسبب ذلك يقرِّرون كثيرًا من القواعد القانونية التي تتَّصف بالظُّلم"[2].
أمَّا سنن الله وناموسه الكوني وقانونه العادل، فليس من وضع البشر؛ بل هي سننٌ بيَّنها الله في كتابه الحكيم، والله يتَّصف بالعدل التامِّ: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وكذلك سننه؛ فالسنن مصطبغةٌ بالعدل اصطباغًا تامًّا، فلا تميل تلك السنن إلى جانبٍ ضدَّ جانب، بل هي عامَّةٌ وشاملة ومطَّرِدَة، ولا تحابي أحدًا، حاكمًا كان أم محكومًا، مؤمنًا أم كافرًا، رجلاً أم امرأةً، الكلُّ سواسية في ميزانها ومنظارها؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؛ فسنن الله وقوانينه عدل كلها وإنصاف للجميع، تضع كل شيء في موضعه؛ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، قال الإمام قتادة - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: "صدقًا فيما قال، وعدلاً فيما حكم"[3]، وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "فكلُّ ما أخبر به فحقٌّ، لا مرية فيه ولا شكَّ، وكلُّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلُّ ما نهى عنه فباطلٌ، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة"[4].
هكذا كان عدل الله بالمرصاد للطغاة المكذِّبين، وكان صدق الآيات الحقيقة القاهرة بأنوارها للكاذبين، ولنا في قصة سيدنا يوسف - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم - خير دليلٍ على ذلك العدل: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
3- العلو والرفعة:
قال الباري - جل وعلا -: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]؛ أي: "كلماته القدرية وكلماته الدينية هي العالية على كلمة غيره"
[5]، وقد قُرِئ: {كَلِمَةَ اللَّهِ} بالنصب، و"لكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى؛ لأنها تعطي معنى التقرير، فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً"[6].
أي كلماته القدرية وكلماته الدنيوية هي العالية على غيرها.
وهكذا، فسنن الله وقانونه العادل هي الظاهرة والعالية فوق كل القوانين، وهي كلمة "نافذة بتمامها لا تعترضها كلمةُ أيٍّ كان، بذلك استحقَّت العلوَّ والرفعة، وكلمات الله نور وبرهان مبين، وكلمة الجاحدين ذليلةٌ حقيرةٌ مهما ساندتها من عُدَّة وعَدَد فمآلها إلى زوال وخسف، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون، فلا بُدَّ من ظهور دين الحق وكلمات الله"[7].
ولمَّا كانت كلمةُ الله هي العليا، فإن مَن سار على منهاجها اتَّصف بصفاتها؛ {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
كانت كلمة الله - عز وجل - هي العليا، واجتمعت في كتاب الله - تعالى - فكان هو المهيمن على كل شيءٍ، وعلى مَنْ سواه من الكتب المنزلة السابقة، وعلى كل فكر أنتجه البشر.
4- القول الفصل:
قال الحق - جل ذكره -: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13- 14]؛ أي: "حقٌّ وجدٌّ يفصل
[8] بين الحقِّ والباطل"[9]، يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: "يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين: السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته بالشدَّة والنفاذ والجزم، يقسم بأنَّ هذا القول الذي يقرِّر الرجعة والابتلاء، أو بأنَّ هذا القرآن عامَّة هو القول الفصل الذي لا يتلبَّس به الهزل، القول الفصل الذي ينهي كلَّ قول وكلَّ جدل، وكلَّ شك وكلَّ ريب"[10].
وبما أنَّ سنن الله قرآنيةٌ فإنها تتَّسم بسماته، فهي تفصل بين الحق والباطل، وبين المتَّقين والظالمين، والكافرين والمؤمنين، وقاطعة لكلِّ مَن ناوأها وعاداها وأعرض عنها.
إنها كلمات الله التامَّات، ووعوده الحقَّة، وعهوده الثابتة، "تلك الكلمات الحاسمات بين الحقِّ والباطل، بين الجدِّ والهزل، الكلمات الصادقات الصارمات القاطعات التي لا يبقى بعدهنَّ غبش ولا لبس، ولا شكوك ولا حيرة ولا ظنون"[11].
إنها حجة الله البالغة، وبرهانه الصادق، وآياته البيِّنات الدامغة للباطل، الرافعة لراية الحق المبين، الدالَّة على وحدانية الخالق - سبحانه وتعالى.

ـــــــــــــــــــــ
[1] "التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية"؛ أ. محمد معمر جابري، مؤسسة الندوي للدراسات والأبحاث العلمية وجدة، ص132.
[2] "المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي"؛ د. عمر سليمان الأشقر، ص84.
[3] "تفسير ابن كثير": 2/168، "تفسير البغوي": 3/181.
[4] تفسير ابن كثير: 2/ 168- 169.
[5] "تفسير السعدي": 1/337.
[6] "في ظلال القرآن"؛ الأستاذ: سيد قطب، 3/1656.
[7] "التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية": ص 140.
[8] وفي "تفسير السعدي": "أي: حقٌّ وصدقٌ بيِّن واضح"، ص919.
[9] "تفسير البغوي": 8/395.
[10] "في ظلال القرآن": 6/3880.
[11] "التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية": ص142.

بقلم: أ.د/ أبو اليسر
Read More

الأربعاء، 20 أبريل 2011

هل خلقت المرأة من ضلع أعوج؟


عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((المرأة كالضِّلَع، إن أقمتَها كسرتَها، وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها عِوجٌ))
[1]، وفي رواية أخرى للبخاري كذلك: ((استوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ خُلقْنَ مِن ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه، فإنْ ذَهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوج، فاستوصوا بالنِّساء خيرًا))[2].

دخلتُ في يوم من الأيَّام إلى إحدى المكتبات في مدينة وَجْدَة، فرأيت كتابًا جذبني عنوانُه، فاقتنيته لأطلعَ على محتواه، وكنت أظنُّ أنَّه يدرأ الشبهاتِ التي أُثيرتْ حول المرأة، ولكن خيَّب ظنِّي لَمَّا اطلعت على حقيقته البلجاء، فكان حالي معه كحالِ مَن يجلس مع نافخِ الكِير، وجدت منه ريحًا منتِنة، أكاذيب وخزعبلات واتهامات، لم أسمعْ بها في الكتب التي اطَّلعت عليها، وسَلَّط جمَّ غضبِه على أحكام الشريعة، حتى الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يَسلمْ من هذه الاتهامات.
الكتاب تحت عنوان: "الضِّلع الأعوج" بخط كبير، وتحته بخط صغير: "المرأة وهويتها الجنسيَّة الضائعة"؛ لكاتبه: إبراهيم محمود، باحث سوري.
فالكتاب مِن أَلِفِه إلى يائِه اتهاماتٌ لا أساسَ لها من الصحة، ولا تستند إلى دليل منطقي، بل هي حماقاتٌ وأغاليط جاء بها هذا الكاتبُ؛ محاولةً منه للتشكيك في أحكامِ الشريعة، ولتمويه النِّساء وتأليبهنَّ على أزواجهنَّ، فالكتابُ كله حديثٌ عن المرأة وجسدِها وأعضائها، والرجل وفحولته، وهَلمَّ جرًّا من الأكاذيب، فلا يَغرُرْك تقلبُهم في البلاد.
وقد حاولتُ ألاَّ أقتطفَ من أقواله شيئًا؛ لأنَّه كلامٌ بذيء، لا يرقَى إلى مستوى الكتب العِلميَّة، بل كتاب يَصلُح أن يكونَ حطبَ جهنمَ.
أرجعُ إلى شرْح الحديث الذي ذكرتُه في مستهلِّ الشقِّ الثاني من هذا المبحث.
يقول الإمام النوويُّ: "قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأةَ خُلِقت من ضِلع، لن تستقيمَ لك على طريقةٍ، فإن استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عِوج، وإن ذهبتَ تُقيمها كسرْتَها، وكسرُها طلاقُها))، العوج: ضَبَطه بعضُهم بفتح العين، وضبطه بعضُهم بكسرها، ولعلَّ الفتح أكثر، وضبطه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر وآخرون بالكسر، وهو الأرجح على مقتضى ما سننقله عن أهلِ اللُّغة - إن شاء الله تعالى.
قال أهلُ اللُّغة: العَوج بالفتح في كلِّ منتصب، كالحائط والعود وشبهه، وبالكسر ما كان في بساط أو أرْض أو معاش أو دِين، ويقال: فلان في دِينه عِوج بالكسر، هذا كلام أهل اللغة، قال صاحبُ المطالع: قال أهلُ اللُّغة: العَوج بالفتح في كلِّ شخص، وبالكسر فيما ليس مرئيٍّ، كالرأي والكلام، قال: وانفرد عنهم أبو عمرو الشيبانيُّ فقال: كلاهما بالكسر، ومصدرهما بالفتح. (والضِّلَع) بكسر الضاد، وفتح اللام.
وفيه دليلٌ لِمَا يقوله الفقهاءُ أو بعضهم أنَّ حوَّاء خُلِقت مِن ضِلَع آدم، قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، وبيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّها خُلِقت من ضِلع، وفي هذا الحديث ملاطفةُ النِّساء، والإحسانُ إليهنَّ، والصبر على عِوج أخلاقهنَّ، واحتمال ضعْف عقولهنَّ، وكراهةِ طلاقهنَّ بلا سبب، وأنَّه لا يطمع باستقامتِها، والله أعلم" [3].
ويقول الإمام الشوكانيُّ - رحمه الله -: "والفائدةُ في تشبيه المرأة بالضِّلع التنبيهُ على أنَّها معوَّجة الأخلاق، لا تستقيم أبدًا، فمن حاول حملَها على الأخلاق المستقيمة أفسدَها، ومَن تركَها على ما هي عليه من الاعوجاج انتفع بها، كما أنَّ الضِّلع المعوج ينكَسِر عندَ إرادة جعلِه مستقيمًا وإزالة اعوجاجه، فإذا تَرَكه الإنسانُ على ما هو عليه انتفعَ به، وأراد بقوله: ((.. وإنَّ أعوجَ ما في الضِّلَع أعلاه))، المبالغة في الاعوجاج، والتأكيد لمعنى الكَسْر بأنَّ تعذُّر الإقامةِ في الجِهة العليا أمْرُه أظهر، وقيل: يُحتمل أن يكونَ ذلك مثلاً لأعلى المرأة؛ لأنَّ أعلاها رأسُها، وفيه لسانُها، وهو الذي ينشأ منه الاعوجاج، وقيل: أعوج هاهنا من باب الصِّفة، لا من باب التفضيل؛ لأنَّ أفعلَ التفضيل لا يُصاغ من الألوان والعيوب [4].
وعِلاوةً على ذلك، فإنَّ الحديث الذي يَذكُر أنَّ المرأة خُلقت مِن ضِلع أعوجَ قد صَدَر على سبيل توصية الرِّجال بالنِّساء خيرًا، ورعايتهنَّ والإغضاء عمَّا قد يقع منهنَّ مِن هَنَات[5]، فطبع المرأة فيه اعوجاجٌ لحكمة إلهيَّة؛ ولذلك وَجَب على الرَّجل أن يحسنَ إليها ويعاشرَها بالمعروف، والحديث كما سبق جاء بتوصية للرِّجال بالإحسان إلى النِّساء، هكذا عَنوَن البخاريُّ أبواب هذا الحديث: باب المداراة مع النِّساء، باب الوصاة بالنساء"، وكما يقال: فقه البخاري في تبويبه.
ففي الحديث إشارةٌ إلى أنَّ في خلق المرأة عوجًا طبيعيًّا، وأنَّ محاولة إصلاحه غيرُ ممكنة، وأنَّه كالضِّلع المعوج المتقوِّس، الذي لا يَقبل التقويم، ومع ذلك فلا بدَّ من مصاحبتها على ما هي عليه، ومعاملتها كأحسنِ ما تكون المعاملة، وذلك لا يمنع مِن تأديبها وإرشادها إلى الصواب إذا اعوجتْ في أمرٍ من الأمور [6].
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: معنى الضِّلع الأعوج: حينما يقول ذلك فإنَّه لا يذمُّ النساء بهذا، وإنَّما هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحدِّد طبائع النساء، وما اختصهنَّ الله به مِن تفوُّق العواطف على العقل، على العكس من الرَّجل الذي يتفوَّق فيه العقلُ على العواطف، فما زاد في المرأة نقصٌ من الرجل، وما زاد في الرَّجل نقصٌ من المرأة.
ليس العوجُ في الحديث مرادًا به الفساد في طبيعة المرأة؛ لأنَّ عوجَها هذا هو صلاحُها لأداء مهمتها، فالمرأة من وظائفها أن تتعاملَ مع الأطفال، والأطفال في حاجةِ إلى الحنان والانعطاف الشديد، وليسوا في حاجةٍ إلى التعامُل معهم تعاملاً عقليًّا، أو يغلب عليه العقل، بل هم في حاجةٍ إلى تعامُلٍ تغلب فيه العاطفة على العقل، حتى يمكنَ أن يكونَ احتمالُ القَذَر ومشقات السَّهْر والبكاء، والبحث عن راحة الطِّفل بين متاعبه، التي لا يُعرَف لها سببٌ أحيانًا.
ولذلك كان أعوجُ ما في الضِّلَع أعلاه، وأعوج ما في المرأة أعلاها؛ يعني: انعطاف صدرِها على طفلِها، وغلبة عاطفتها على عقلِها.
من هنا أصبح العوجُ صفةَ مدحٍ، وليس صفةَ ذمٍّ للمرأة؛ إذ إنَّ هذا العوج في حقيقته هو استقامةُ المرأة لمهمَّتها [7].
فالمقصودُ بالضِّلع الأعوج إذًا المعنى المجازي، وليس اللفظي، وهذه هي الحقيقة الثابتة التي تناولها حديثُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالأسلوب المجازي، والمعروف أنَّ القفص الصدريَّ للإنسان يتكوَّن مِن ضلوع معوجة إلى حدٍّ ما، والصواب بقاؤها على عِوجها، ولن تجدَ طبيبًا جرَّاحًا يجري عملية تجميلٍ لتقويم اعوجاجها.
وبناء على هذا الوضع الطبيعي - المعروف مِن قِبَل الجميع - لجزء من جَسدِ الإنسان شبَّه به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضْعَ المرأة، وأَمَرَنا بالتعامل مع النِّساء بما يُلائِم طبائعهنَّ، والتصرُّف معهنَّ على أساس أنهنَّ الجنس الناعم، وعاطفيات أكثرَ من الرَّجل، وقد خلقهنَّ الله كذلك بمشيئته لدواعٍ خاصَّة، ممَّا يتوجَّب على الرجال مراعاة الرِّفق في التعامل مع النِّساء دائمًا، وإبلاغهنَّ بأمرٍ ما بالرِّفْق والأسلوب الجميل.
وإن كنتَ قاسيًا في تعاملك مع المرأة، فهي لن تتحمَّلَ ذلك بوضعِها النفسيِّ والعضوي، وستنكسر مشاعرها كما ينكسر الضِّلع لدَى محاولة تقويمها[8]، فالحديث إذًا يؤكِّد، ويوصي بالرِّفْق والرحمة في معاملة النِّساء، فكيف يَدَّعي دُعاةُ التحرُّر أنَّه ينقص من مكانة المرأة وشخصيتها؟!
ولو تأمَّلْنا عاطفةَ المرأة، وحنانها على أطفالها، وأردْنا أن نرسمَ في أذهاننا صورةَ المرأة الأمِّ مع أطفالها، لرسمْنا امرأةً منحنية عليهم، مائلة برأسها فوقَهم، فلا تجتمعُ استقامةُ الجذع مع حَدَب المرأة وعطفِها، فالأمُّ إما تُرضِع طفلها أو تحضنه وتحميه، أو تُنظِّفه وتلبسه، وفي جميع هذه الحالات لا تكون إلاَّ منحنية [9].
فاعوجاجُ الضِّلَع إذًا فيه حمايةٌ لقلْب الرجل، فكأنَّما المرأة لتحمي الرجل، وتوفِّر له الاستقرارَ والطُّمأنينة والرِّضا، الأمور التي تَكفُل لقلْب الرجل عدم الاضطراب، ومِن ثَمَّ السلامة والعافية [10].
ورحَّبتِ النِّساءُ والأمهات بهذا المفهوم واعتبرنَه وصفًا لطبيعتهنَّ، وتوصيةً للرِّجال بالإحسان إليهنَّ والرِّفق بهنَّ، ولم يعبأنَ بالشبهات التي أُثيرتْ حولَ الحديث، واعتبرنَ ذلك أشواكًا يزرعها أعداءُ الإسلام في طريق مَن يطلب السعادةَ الأبدية في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما المرأة كالضلع))، (ح: 5184).[2] المصدر نفسه، باب الوصاة بالنساء، (ح: 5186)، صحيح مسلم، كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء، (ح: 1468). [3] "صحيح مسلم بشرح النووي" (5/281). [4] "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأبرار"؛ محمد بن علي بن محمد الشوكاني، (6/244). [5] "المرأة في القرآن والسنة مركزها في الدولة والمجتمع وحياتها الزوجية المتنوعة وواجباتها وحقوقها وآدابها"؛ محمد عزة دروزة، (ص: 47). [6] "فقه السنة"؛ السيد سابق، (ص: 529).[7] "المرأة المسلمة والدعوة إلى الله"؛ أشرف عليه واعتنى به: أحمد الزعبي، (ص: 26).[8] "المرأة بين شريعة الإسلام والحضارة الغربية"؛ الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، (ص: 172 – 173). [9] "رسالة إلى حواء: اعترافات نوال السعداوي"؛ محمد رشيد العويد، (ص: 99). [10] "رسالة إلى حواء: اعترافات نوال السعداوي"؛ محمد رشيد العويد، (ص: 99).
بقلم: أ.د/أبو اليسر
Read More

الفتح الأعظم لمكة المكرمة


حيث رُفِعت رايةُ الإسلام، وانكسرتْ شوكة الشِّرْك والكفر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
وهنا لابدَّ مِن وقفة عند أحداث هذا الفتح نتأمَّل فيها؛ لنرى كيف أنَّ الله - سبحانه وتعالى - إذا أراد أمرًا هيَّأ له أسبابَه.
كان سبب الفتح - كما ذَكَر أهلُ السِّير -: أنَّ قريشًا نقضتْ ذلك الصلح والعهد والميثاق الذي أبرمتْه مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث تظاهرتْ بنو بكر وقريش على خزاعة، التي انضمتْ يوم الصُّلح إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذهب أبو سفيان إلى المدينة؛ ليسترضيَ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويعتذر عمَّا وقع، لكن أمر الله كان قَدَرًا مقدورًا، فقد كان ذلك سببًا للفتح الأعظم.
أَمَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابَه بالتهيُّؤ لدخول مكَّة، فتجهَّز الناس، ومضى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسفره، وخرج لعشرٍ مَضَيْن من رمضان، فصام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصام الناس معه، حتى إذا كان بِالْكُدَيْد - بين عسفان وأمَج -
[1] أفطر[2].
ثم مَضَى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى نزل مرَّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين فسبَّعت
[3] سليم، وبعضُهم يقول ألَّفت[4] سليم، وألَّفت مزينة، وفي كلِّ القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - المهاجِرون والأنصار، فلم يتخلَّف عنه منهم أحد، فلمَّا نزل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّ الظهران[5]، وقد عميتِ الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبرٌ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.[6]
ولَمَّا رأى العباس بن عبد المطلب جيشَ المسلمين، قال: وا صباح قريش، واللهِ لئن دخل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكَّة عنوةً قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنَّه لهلاك قريش إلى آخِرِ الدهر
[7].
وبينما رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذلك المكان إذ جاءَه أبو سفيان مع العباس بن عبد المطلب، فدخل في الإسلام، فحقن دَمه ودم قومه، فدخل سيِّدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكة، وأعطى الأمان كلَّ مَن لم يقاتل؛ تعظيمًا لبيت الله الحرام، فدخل كثيرٌ من الناس في الإسلام، منهم رؤوس أهل مكَّة، فطاف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد دخوله بالبيت سبعًا، وتوضَّأ بماء زمزم.
قال الإمام ابن سعد - رحمه الله -: "وطاف رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالبيت على راحلته، وحول الكعبة ثلاثمائة وستُّون صنمًا؛ فجعل كلَّما مرَّ بصنم منها يُشير إليه بقضيب في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقًا، فيقع الصنم لوجهه، وكان أعظمها "هبل"، وهو وجاهَ الكعبة.
ثم جاء إلى المقام وهو لاصقٌ بالكعبة، فصلَّى خلفَه ركعتين، ثم جلس ناحيةً من المسجد، وأرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة
[8] أن يأتيَ بمِفتاح الكعبة، فجاء به عثمان، فقبضَه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفتح الباب، ودخل الكعبة فصلَّى فيها ركعتين، وخرج فأخذ بعضادتي الباب والمِفتاح معه، وقد لُبِط بالناس حول الكعبة؛ فخطب الناس يومئذٍ ودعَا عثمان بن طلحة فدفع إليه المِفتاح، وقال: ((خذوها يا بني أبي طلحة تالدةً خالدة، لا ينزعها منكم أحدٌ إلاَّ ظالم))، ودَفَع السقايةَ إلى العباس بن عبد المطلب، وقال: ((أعطيتكم ما ترزؤكم، ولا ترزؤونها))[9].
ولا خلافَ أنَّه لم يجرِ في فتح مكة قَسْم ولا غنيمة ولا سَبْي؛ وذلك لِمَا عظَّم الله مِن حُرْمة البيت الحرام، وما شرَّف مكَّة به.
ولَمَّا استقرَّ الفتح الأعظم لمكَّة، "أمَّن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الناس كلَّهم إلاَّ تسعة نفر، فإنَّه أمر بقتْلِهم، وإن وجدوا تحتَ أستار الكعبة؛ وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد العزى بن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتانِ لابن خطل؛ كانتَا تغنيان بهجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -  وسارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب.
فأمَّا ابن أبي سرح فأسلم، فجاء به عثمانُ بن عفان، فاستأمن له رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقَبِل منه، بعد أن أمسك عنه؛ رجاءَ أن يقوم إليه بعضُ الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتدَّ ورجع إلى مكة.
وأما عكرمة بن أبي جهل، فاستأمنتْ له امرأته بعد أن فرَّ، فأمَّنه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقدم وأسلم وحسُن إسلامه. 

لقد كان الفتحُ الأعظم لمكَّة المكرَّمة في شهر رمضان سَنة ثمان؛
أما ابن خطل والحارث ومقيس وإحدى القينتين، فقُتِلوا، وكان مقيس قد أسلم ثم ارتد، وقتل ولحق بالمشركين.
وأما هبار بن الأسود، فهو الذي عَرَض لزينب بنت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين هاجرتْ، فنَخَس بها حتى سقطتْ على صخرة، وأسقطت جنينها، ففرَّ، ثم أسلم وحسن إسلامه.
واستؤمن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -  لسارة ولإحدى القينتين، فأمَّنهما فأسلمتَا
[10].
فاطمأنَّ الناس لهذا الفتح العظيم، وأنزل الله السكينةَ في قلوب المؤمنين، واستبشر سيِّد الوجود - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفتح المبين، وارتاح إلى جمْع شمل العَرَب، وأيقن أنَّه سيعدُّهم لبناء مجتمع عمراني أُخوي؛ لنشْرِ عقيدة السماء في أرجاء العالَم، ورفع راية الإسلام في رُبوع الأرض، وازداد - صلَّى الله عليه وسلَّم - استبشارًا وسرورًا لَمَّا طهَّر الكعبة من رِجْس الشرك، وأدران الوثنية، ونقلها مِن دياجير الظلام إلى عالَمٍ يشعُّ بالنور، ويضيء الكون.
إنَّه الفتح الأعظم، الذي أعزَّ الله به نبيَّه الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجندَه المؤمنين المجاهدين، ورَفَع به لواء الدِّين، واستنقذ به البلدَ الحرام وبيتَه المشرَّف، الذي جعله هدًى للعالَمين، وموطنًا للحجَّاج الميامين - من أيدي الكفَّار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به الملأ الأعلى،  ودخل الناس ببركتِه في دِين الإسلام أفواجًا، وأشرق به وجهُ الأرض ضياءً وابتهاجًا.
وهنا لا يفوتنا أن نُشيرَ إلى سُنَّة من سنن الله تحقَّقت في هذا الفتح، وهي وَعْدُه سبحانه - جلَّ وعلاَ - بنصْر المستضعَفِين
[11] ووراثتهم للأرض؛ قال الحق - سبحانه وتعالى - : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].



ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أمج: بلد من أعراض المدينة، "معجم البلدان"، باب الهمزة والميم وما يليهما، حرف: الهمزة والألف.[2] "سيرة ابن هشام" (4/308)، "تاريخ الطبري" (2/182-183)، "في مهبط الوحي"؛ محمد بديع شريف (ص: 85)، "المغازي النبوية"؛ للزهري (ص: 86)، "أنساب الأشراف" (1/353).
[3] أي: صارت سبعمائة.
[4] أي: صارت ألْفًا.
[5] مَرّ الظهران: موضع بينه وبين البيت الحرام ستة عشر ميلاً، سُمِّيت "مر" لمرارة مياهها؛ "الروض المعطار"، حرف الميم (ص: 531).
[6] "سيرة ابن هشام" (4/309)، "طبقات ابن سعد" (2/134-135)، "عيون الأثر"؛ تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، (2/217)، "إمتاع الأسماع" (1/357)، "المغازي النبوية"؛ للزهري (ص: 86).
[7] "سيرة ابن هشام" (4/310).
[8] هو: عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسمه عبدالله بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار العبدري، حاجب البيت، أمُّه أم سعيد بن الأوس، قتل أبوه طلحة وعمُّه عثمان بن أبي طلحة بأُحد، ثم أسلم عثمان بن طلحة في هدنة الحديبية، وهاجر مع خالد بن الوليد، وشهد الفتح مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأعطاه مِفتاحَ الكعبة، سكن المدينة إلى أن مات بها سنة اثنتين وأربعين؛ قاله الواقدي وابن البرقي؛ "الإصابة"، ترجمة (رقم: 5444) (4/450).
[9] "طبقات ابن سعد" (2/137).
[10] زاد المعاد، 2/223.
[11] وهي سُنة الله في استفزاز الأقوام واستضعافهم، فاستضعاف الكفَّار للمؤمنين وإخراجهم مِن ديارهم وأموالهم كان من الأسباب المباشِرة، التي ورثت المؤمنين أرضَهم وديارهم، فدخلوا مكَّة فاتحين لله، شاكرين حامدين، إنَّه قانون السنن الذي لا يَحيد ولا يميل؛ {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 76 - 77].
بقلم: أ.د/أبو اليسر
Read More

دروس من غزوة تبوك/الجزء الأول


[1] في شهر رجب من سنة تِسع قبل حَجَّة الوداع، بلا خلاف[2]، وهي آخِرُ غزوات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن أهمِّها وأكثرها عددًا؛ ذلك أنَّ السرايا التي كان يبعثها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الجِهات والنواحي المختلفة لم تكن لتستوعبَ المسلمين كلَّهم، وأنَّ الأمَّة المسلمة أُمَّة مجاهدة، لا يمكن أن تتوقَّف عن الغزو والجهاد أبدًا، حتى ينتهي الظُّلم من على سطح الأرض كلها؛ لذا كان لا بدَّ من الإعداد لغزوة تضمُّ المسلمين جميعًا، لكي يبقى كلُّ مسلم على استعداد دائم للحركة والانتقال من ساحة إلى ساحة، ولكيلاَ تميل النفوس إلى الفتور، وترغب في الاستقرار والرخاء[3].
فكانتْ غزوة تبوك التي جمعتْ ذلك العددَ الكبير من المسلمين مباركةً، تحقَّقت فيها سُنَّة الله في أنَّ النصر للتقوى، والعاقبة للمتقين، وهذا ما نستنبطه من نتائجها.
كانتِ الدعوة إلى الإسلام هي جوهرَها وهدفَها، فقد نُشِر الإسلام بها في شمال البلدان العربية، واستأنس به العَربُ في هذه الأقاليم، وأخَذَ ينتشر في الشام ذاته، مما كان تمهيدًا للفتوحات الإسلامية، وهذا الذي حَدَث في فترة الخلفاء الراشدين الذين فتحوا تلك البلادَ، ونشروا الدعوة الإسلاميَّة في الجزيرة العربية إلى تخوم الشام، فحقَّقوا فتحًا باهرًا، وسلطانًا عزيزًا، وأعلامًا مرفوعة منشورة في رُبوع الأرض.
هذا هو سبب غزوة تبوك: نَشْر الدعوة الإسلامية، وردُّ اعتداء المعتدين، أمَّا ما ذكره بعضُ أهل المغازي من أنَّ سببها تسهيل طريق التجارة، فما كانت غزوات الحبيب الأكرم، والقائد الأعظم - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتسهيلِ طريق تجارة مادية، إنما كان قتالُه في الغزوات والسرايا لتسهيلِ طريق الدعوة الإسلامية، وإخراج العباد مِن ظُلم الشِّرْك إلى نور التوحيد، ومِن اتِّباع الهوى والضلال إلى اتِّباع الهدى والحقّ، هذه هي التجارة التي سهَّل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - طريقَها، وهي تجارة لن تبور، وفيها رِضَى الله - تعالى وتقدَّس.
ولذلك فإنَّ الرومان بعد سريَّة "مؤتة" قد رأَوْا أنَّ الدعوة الإسلامية ودِين الإسلام ينتشر في الناس انتشارَ النار في الهشيم، وأصبحتْ أحكامُه وشرائعه تغزو البلاد والعباد، ففكَّروا في خطَّة للقضاء على الدِّين الجديد، والحدِّ من مدِّ انتشار الدعوة الإسلامية، فأعَدُّوا العُدَّة للقضاء على الإسلام، فلمَّا وصل خبرُ استعدادهم إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان ليتركَهم حتى يغزوَه في عقر داره؛ بل أعدَّ العُدَّة، وحثَّ وحضَّ على المُضيِّ في سبيل الله، والبذْل لمواجهة هذه الجموع من الأعداء.
فاستجاب الصحابة - رضي الله عنهم - للنداء، وخرجوا خِفافًا وثِقالاً، فلما انتهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى تبوك، أتاه يُحَنَّه صاحب أيلة
[4]، فصَالَح رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء[5] وأذرُح[6]، فأعطَوْه الجزية، وكتب لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم – كتابًا -  وهو عندهم - وكتب ليُحنَّه بالمصالحة [7].

وبعدما أرْسى سيِّدُ الوجود - صلَّى الله عليه وسلَّم - قواعدَ الإسلام في تلك النواحي، وبسط هيبةَ دولة الإسلام، وأخضع لها مَن هناك؛ عربًا ونصارى ويهودًا، قَفَل - بعناية الله - عزيزًا منصورًا، ومؤيَّدًا بعد أن أقام بِضع عشرة ليلة بتبوك، وكان يَقصُر الصلاة فيها، وقد جعل من المدينة إلى تبوك في طريقه مساجدَ يُقيم فيها شعيرةَ الصلاة، وقد بلغ عددُها خمسةَ عشرَ مسجدًا.

لقد حقَّق الله - تعالى - لنبيِّه وصفْوة خَلْقه النصرَ المبين، دون حرْب وقتال، ومواجهةِ تلك البقاع من اليهود والنصارى، ودون غدْرٍ ولا خيانة منهم، وعامَلَهم بما يستحقُّونه على هُدَى الله ووحيه، ولم يُكرهْهم على الدخول في الدِّين، بل قَبِل منهم الجزية وأقرَّهم آمنين، ومَن غَدَر وخان نال عقوبتَه دون هوادة ولا تقصير؛ ليكونَ عِبرةً للمعتبِرين.

لقد كانتْ غزوة تبوك شاقَّة، ولكنَّها في غاية النفع والإفادة، وتطهير المجتمع مِن داخله، وإقرار هيبته وتأمينه من خارجه، ولقد كانتْ محطَّة متميِّزة على طريق الإسلام الطويل، ولهذا احتلَّت مكانةً مرموقة في آيِ الْكتاب العزيز، ونصوص السُّنَّة، وكتب السير، وأحكام الفِقه والتشريع.

وستبقى مَعِينًا ثرًّا لِمَن يطلب الحقَّ، ويسلك طريقَ السواء
[8].
كانتْ غزوة تبوك

ـــــــــــــــــــــ
[1] انظر أحداثها بتفصيل في: "عيون الأثر"؛ لابن سيد الناس (2/277 – 284)، "مغازي ابن عقبة" (ص: 294 -306)، "أنساب الأشراف"؛ للبلاذري (1/368)، "غزوات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ ابن كثير (379 -391).
[2] "فتح الباري"؛ (7/720).
[3] "التاريخ الإسلامي"؛ محمود شاكر (2/252).
[4] أيلة: مدينة على ساحل بحر القُلزُم مما يلي الشام، وقيل: هي آخِر الحجاز وأول الشام؛ "معجم البلدان"، باب الهمزة والياء وما يليهما، حرف الهمزة.
[5] الجرباءُ: كأنه تأنيث الأجرب، موضع من أعمال عمَان بالبلقاءِ من أرض الشام، قُرْب جبال السراة من ناحية الحجاز، وهي قرية من أذرح؛ "معجم البلدان"، باب الجيم والراء وما يليهما، حرف الجيم.
[6] أذرُحُ: وهو اسم بلد في أطراف الشام من أعمال السراة، ثم من نواحي البلْقاء وعمان، مجاورة لأرض الحجاز؛ "معجم البلدان"، باب الهمزة والدال وما يليهما، حرف الهمزة.
[7] "عيون الأثر"؛ تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي ببيروت (2/284)، "مغازي ابن عقبة" (ص: 300).
[8] "العلاقات الإسلامية النصرانية في العهد النبوي"؛ فاروق حمادة (ص: 219).

بقلم أ.د/أبو اليسر رشيد كهوس
Read More