الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

الجمال المحمدي


إن الحديث عن جمال سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ بمجامع القلوب وتشرئب إليه أعناق المحبين وعشاق المعالي، تهتز القلوب المُحبة بذكره، وتعطر الأرواح بسيرته، فسيرته وشمائله وخصاله وصفاته كالبدر يسري بضوئه؛ متعة للسامرين ودليلاً للحائرين، بل هي شمس أشرقت على الأرض بنورها الوهاج فتتلألأ وجهها ضياء ونوراً؛ وعمت بنورها الكون كله.
لقد منح الله نبيه محمدا
 صلى الله عليه وسلم الكمال البشري في كل صفاته الخَلقية والخُلقية.
فوهبه من الصفات المعنوية أقومها وأعدلها، ومن الصفات الحسية أحسنها وأجملها.
فهو صلى الله عليه وسلم أجمل الأنبياء على الإطلاق، وإن كان يوسف عليه السلام وهبه الله حظا وافرا من الحسن والملاحة والجمال لدرجة أن النسوة لم يتمالكن أنفسهن حين شاهدن حسنه، ((فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف: 31].
أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتميز بصفات جسمية لا يشاركه فيها أحد، صفات كلها جمال وكمال وبهاء، جمع الله له بين شجاعة القلب وقوة البدن، وكمال الجسم، وحسن المظهر...

          خلقت مبرأ من كل عيب = كأنك قد خلقت كما تشاء

فهو أكمل الناس وإن لم يكن من الملائكة فهو أعلى من الملائكة، وأليق بحمل رسالة خالدة، وأجدر بها من خلق الله أجمعين
.
فهو الذي تم معناه وصورته = ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم
منزه عن شريك في محاسنه = فجوهر الحسن فيه غير منقس
م
فهو صلى الله عليه وسلم أعطي الحسن كله والجمال كله، متوج بميزتين عظيمتين:
- أولهما: الهيبة الجلالية؛
ولذلك لم يفتتن به من يراه، كما افتتن نسوة المدينة بنبي الله يوسف الصديق عليه السلام، فمن رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هابه، للهيبة الجلالية المضافة على جماله، وكان أصحابه الكرام رضي الله عنهم لا يستطيعون إثبات النظر في وجهه الشريف لقوة مهابته ومزيد وقاره. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه" [صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسلام يهدم ما قبله].


وصحب زليخا لو رأين جبينه ** لآثرن تقطيع القلوب على الأيدي
قال القرطبي رحمه الله:"لم يظهر لنا تمام حسنه لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته صلى الله عليه وسلم".
-وآخرهما: النور الضيائي؛وهذه النورانية أصيلة فيه صلى الله عليه وسلم وهي أول ما خلق الله تعالى من الأنوار في الأكوان، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه: ((أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)) [رواه عبد الرزاق الصنعاني] وإن كان هذا الحديث فيه نظر عند أهل الحديث، فإن نورانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأولية خلقها لا تحتاج إلى دليل، فنوره صلى الله عليه وسلم ظاهر ووجوده باهر... وهذه الحقائق هي أدلة في حد ذاتها، وصدق رب العزة حيث يقول في هذا النور الأزلي الخالد: ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ))[المائدة: 15].
Read More

رجال صنعهم الحب النبوي

الحلقة الأولى
-- ((سيدنا سعد بن الربيع رضي اله عنه))--



بعد انتهاء معركة أحد [شوال 3هـ] فرغ الناس لقتلاهم، فتفقد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن الربيع رضي الله عنه الذي ملأت محبة رسول الله شغاف قلبه، ولم يأبه لما أصابه من جراح وهو يحتضر إلا شوقه إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ؟ ...أَفِي الْأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَعَلَ سَعْدٌ، فنظر فوجده جريحا في القتلى وَبِهِ رَمَقٌ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ أَفِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ قَالَ: أَنَا فِي الْأَمْوَاتِ، فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنّي السّلَامَ؛ وَقُلْ لَهُ: إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَك: جَزَاك اللّهُ عَنّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّا عَنْ أُمّتِهِ. وَأَبْلِغْ قَوْمَك عَنّي السّلَامَ؛ وَقُلْ لَهُمْ: إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إنّهُ لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ إنْ خَلُصَ إلَى نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ.قَالَ: ثُمّ لَمْ أَبْرَحْ حَتّى مَاتَ، قَالَ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللّهِ فَأَخْبَرْته خَبَرَهُ(أورده ابن هشام في سيرته والطبري في تاريخه).
إنه سيدنا سعد بن الربيع رضي الله الذي يحذر إخوانه من الأنصار من أن يتمكن أحد من حبيبه الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك عرجت روحه إلى ربها. فنلحظ إلى ما ختم به سيدنا الربيع رضي الله عنه حياته حين أثخنته الحرب: نسي ما حل به من آلام وجراح ودماء، وانتهز الفرصة للتعبير عن حبه الشديد لحبيبه وتحذير إخوانه من أن تصل يد عدو إلى حبيبه، انتهز بقية الحياة يتذوق حلاوة ذكر المحبوب يفارق بها الحياة الفانية لينتقل إلى الحياة الخالدة حيث لقاء بلا فراق، ووصال واجتماع. وهكذا كان لتلك الكلمات التي تلفظها أثرها القوي في قلوب المسلمين، كما وجه من خلالها رسالة لأولئك الذين أثخنوه جراحا ما صنعوا فيه، إنهم رفعوه مقاما عليا وقربوه من لقاء حبيبه، وحققوا له أمنيته، وأنه ذاهب إلى الجنة حيث المحبوب الأعظم، وتلك هي الغاية العظمى التي يرجوها كل محب ومن أجلها يبذل الغالي والنفيس
Read More

مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم إكمال الدين والبلاغ المبين


في العام العاشر من الهجرة المحمدية وفي شهر ذي الحجة الحرام كانت حجة الوداع والبلاغ والتمام والكمال([1])، هذه الحجة كانت مسك الختام لجهاد([2]) خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، في هذه الحجة حمَّل فيها النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولية الدعوة... وتبليغ الرسالة لأمته إلى يوم القيامة.وفيها حقق الله وعده لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بوراثة الأرض، وإكمال الدين وإتمام النعمة، قال الحق جل ذكره في وعده الذي حققه، وفي سنته في أن النصر للتقوى والعاقبة للمتقين: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)) [3].
لقد ختم الله رسالته برسالة القرآن والنبي العدنان صلى الله عليه وسلم، وأكمل الله تبارك وتعالى دينه بالإسلام، وأتم به نعمته على الناس أجمعين، فاستغنوا بدين الإسلام عما سواه، ولم يعودوا بعده بحاجة إلى ملل جديدة أو دين جديد. فقد اشتمل الإسلام على كل صغيرة وكبيرة مما يحتاج إليه الناس من تعاليم وتشريعات في مختلف جوانب الحياة كلها، بحيث يكتفي الناس بشريعة الإسلام، ولا يتشوفون إلى شريعة أخرى يلتمسون فيها الهداية، أو يبحثون عن مبادئ ضالة وأفكار مستوردة وقوانين دخيلة بدعوى استكمال نقص في دينهم ومبادئهم، أو استدراك على قانون من قوانينهم أو حكم من أحكامهم، أو نحو ذلك من ترهات وأباطيل لا صلة لها بالدين، ولا تليق بأمة سيد المرسلين، و لا تصدر إلا عن جاهل ومتجاهل بكنه الشريعة أو كافر أو مغرض يخدم مصالح الأعداء، أو خبيث النية والمقصد اتخذ الشيطان وليا من دون الله، أو مسيء لفهم هذه الشريعة الغراء العظيمة.
في حجة الوداع والبلاغ تحقق الوعد الإلهي وسنته بإظهار دين الحق دين الإسلام، وإتمام نور الإسلام رغم أنف المعتدين الذين طالما حاولوا إطفاءه والكيد له.
وانتهت كل العهود التي أبرمت مع المشركين، وحظر عليهم دخول المسجد الحرام، فأصبح أهل الموسم من المؤمنين الموحدين الذين لا يعبدون إلا الله ، وأقبلت وفود الله من كل فج عميق قاصدة البلد الحرام تيمم وجهها شطر الكعبة المشرفة، وهي مشتاقة إلى ذلك اللقاء مع أمير حجها ومعلمها مناسكه في هذا العام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونظر سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى تلك الحشود المؤمنة والألوف المؤلفة الواقفة بفناء البيت متضرعة خاشعة ملبية لله. فسره ذلك وشرح الله صدره لما رأى ثمرة ذلك الجهاد الطويل في مكة والمدينة؛ وها هي الوفود كلها منقادة للحق، ومهتدية بالإسلام، فانتهز صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة الثمينة ليغرس في القلوب لباب الدين؛ فألقى كلماته النورانية ليبدد آخر ما أبقته الجاهلية من مخلفات وآفات في النفوس ويؤكد ما يحرص دين الإسلام على إشاعته من أخلاق وآداب وأحكام..
فأفرغ صلى الله عليه وسلم في آذان تلك الجموع النصائح الغالية والمعاني التي بُعث بها، وملأ قلوبها بنورانية ربانية، وحملها مسؤولية تبليغ رسالة الإسلام بعده.
كان صلى الله عليه وسلم يحس أن تلك الجموع الحاشدة وهذا الركب المبارك سينطلق في بيداء الحياة وقفارها وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد ويذكره بما ينفعه أبدا.وها هو يوصي أمته بما ينفعها ويضمن عزها ومجدها ويحفظ لها كرامتها ووحدتها ويرضي عليها ربها ويسر نبيها.
وأكد الوصايا مرارا وهو على ناقته العضباء، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه،وعاود صيحات الإنذار ليحذر تلك الجماهير المائجة من كيد الشيطان، وبعد ذلك انتزع شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنهم قد سمعوا وأنه قد بلغ؛ ليقطع جميع المعاذير المنتحلة، وليجعل مهمة التبليغ ملقاة على أعناق الجميع، ويخلي ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التي نيطت بعنقه صلوات ربي وسلامه عليه.
لقد ظل صلى الله عليه وسلم عقدين وثلاث سنوات يصل الأرض بالسماء ويتلو على القاصي والداني ما أنزل عليه من ربه، ويغسل أدران الجاهلية التي التاث بها المجتمع، ويربي الجيل الذي سيحمل الراية بعده لينشر الإسلام في أرجاء المعمورة..
وها هو –عليه الصلاة والسلام- يقود الحجيج في أول موسم حج تطهر فيه البيت من دنس الشرك والأوثان، ويتوجه فيه كل الناس للواحد القهار..
وها هي الجموع الكثيرة من الناس أتت من كل فج عميق ومن كل جهات الجزيرة العربية لتلتقي بالحبيب الأكبر والمصحوب الأعظم صلى الله عليه وسلم في الأيام الأخيرة من حياته، ولتشهد منافع لها في خطبته العظيمة التي وضعت مبادئ ودعائم حقوق العباد، فتجمعت حوله تلك الحشود بعد شوق طويل، فألقى كلماته الربانية ووصاياه الغالية.
والله ما أروعها من كلمات تلك التي خرجت من فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم كالنور ملأت الكون بنورها حتى أضاء منه كل شيء.. بعد أن بلغ رسالة ربه إلى الناس كافة، وجاهد في الله حق جهاده ثلاثة وعشرين عاما لا يكلّ ولا يمل.
ولله ما أروعها من لحظة وأغلاها من فرصة تلك التي اجتمعت فيها الأمة المحمدية بمحبوبها ومعلمها وكاشف الغمة عنها، ومخرجها من ربق العبودية للطاغوت إلى حرية العبودية لله وحده.
آلاف من المؤمنين خاشعين متضرعين مفتقرين ومنكسرين لربهم جل وعلا، ووعد الله تعالى يرفرف في السماء: ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ))([5])، وحبيب الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أجيال المستقبل، وإلى ثمرة تربيته الذين سيحملون هم الدعوة الإسلامية وراية الجهاد من بعده إلى يوم القيامة، ينبههم ليسمعوا خطابه المودع: "أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا .[6]"
فكانوا كلهم آذانا صاغية، وقلوبا خاشعة، لهذه الخطبة العظيمة التي وضع r فيها دعائم وركائز ما جاهد في سبيله ثلاثة وعشرين عاما.
قال صلى الله عليه وسلم في خطبته([7]) العظيمة:« إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَرِبا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟iقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَة،ِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا([8]) إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْi. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»([9]).
نشهد يا حبيب الله أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد حتى انتقلت إلى الرفيق الأعلى.
وهنا نقف مليا مع بنود هذه الخطبة العظيمة نسلط عليها بعض الأضواء لنستضيء بنورها الوضاء، ونستنبط منها سنة الله تعالى في نصر المؤمنين لما لزموا غرزه واعتزوا به، وأحبوا نبيه صلى الله عليه وسلم وتفانوا في حبه، واعتصموا بالقرآن والسنة. ونستنبط كذلك سنته تعالى في تغيير تلك النعم التي حققوها في ماضيهم التليد لما خالفوا أمره، وخذلوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتركوا تلك الأمانة العظيمة وراء ظهورهم:
البند الأول: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...): وكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه التوصية، وها نحن اليوم في زمن تزهق فيه الأرواح، وتراق فيه الدماء البريئة، وتنتهب فيه أموال الشعوب، ويعتدى فيه على الناس في كل وقت وحين، والاستدمار الصليبي واليهودي ما زال ينهش في جسم الأمة بالمخلب والناب.
البند الثاني: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي...): وها هي الأمة الإسلامية اليوم قد مزقتها الحروب القومية والطائفية والعرقية والمذهبية، وأعداء الإسلام ينبشون التراب عن الجيفة المنتنة، تلك القومية العربية والأمازيغية والوطنية ... كل هذه المصائب كانت نتيجة تلك المخالفة لهذا البند.
البند الثالث: في باب المعاملات: فكل ربا موضوع وأن للناس أموالهم لا يَظلمون ولا يُظلمون. وما الأزمة الاقتصادية التي حلت بعالمنا اليوم وبدأت تنخر في كيان الدول العظمى والصغرى وتنذر بانتكاس راياتها إلا بسبب المعاملات الربوية المحرمة.
البند الرابع: حدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحج بعدما كان المشركون يتلاعبون بالأشهر، فلا حج إلا في شهر اسمه ذو الحجة. وهو الشهر الذي حج فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته الأخيرة.
البند الخامس: وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم أسس حقوق المرأة في الإسلام؛ فأوصى بالنساء خيرا، وهي وصية جامعة شاملة تهدف إلى القضاء على الظلم ضد المرأة.
البند السادس: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتصام بالكتاب والسنة وهُمَا المخرج من كل ضيق والدواء لكل داء والأمان من كل تيه وشقاء وضلال وزيغ.
وما الشقاء والذل والهوان الذي أصاب الأمة الإسلامية إلا ببعدها عن هذين المنبعين، مصدر كل عزة وكرامة ونصر وتمكين.
وخلاصة المرام في تحقيق المقام:
بذلك ا المنهاج النبوي الجامع، بين الرحمة والقوة، والجهاد والتربية، والمحبة والأخوة أخذت جذوة الباطل تخمد رويدا رويدا، حتى أفل نجم الجاهلية، وظهر فجر الإسلام وثبتت دعائمه. وخضع العرب بعدما لان قيادهم للحق -بعدما انكمش الباطل واندثر- في حجة الوداع.
وانتهت مناسك الحج وسمع الناس كلهم صوت الحق المبين، فحث سيد الوجود صلى الله عليه وسلم الركاب إلى مدينته المنورة لا ليأخذ حظا من الراحة في منتزهاتها، بل ليستأنف حياة الجهاد ويستقبل الوفود الوافدة على الإسلام لترجع إلى قومها مبلغة للرسالة الخالدة، ويعبئ جيشا ليكسر به أنفة الروم وكبرياءهم.
إنها أمانة عجزت السموات والأرض عن حملها، وراحة أصحاب الرسالات عندما يرون بواكير نجاح الدعوة دانية القطاف، وثمرتها طيبة مباركة.


------------------------------------------------------
([1])سميت حجة الوداع؛ لأن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم بعدها بأمد قصير التحق بالرفيق الأعلى، ولأن العبارات الواردة في خطبته صلى الله عليه وسلم تفيد بأنها آخر لقاء مع تلك الحشود التي أتت من كل فج عميق لتشهد منافع لها في الصحبة المباشرة لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم والتلقي المباشر منه والتشرب القلبي من معينه.
وسميت حجة البلاغ؛ لأن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر في خطبته عبارات التبليغ: (ألا هل بلغت؟) (فليبلغ)... أضف إلى ذلك أنها كانت خاتمة البلاغ إلى البلاد العربية، فعم القاصي والداني العلم بدعوة الإسلام؛ فمنهم من دخل في الإسلام وأشرب حبه في قلبه وتمكن الإيمان فيه، ومنهم من قدم الطاعة للإسلام ولأحكامه ولما يدخل الإيمان قلبه.
وأسميها كذلك بحجة التمام والكمال، لكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين.
([2]) ليس الجهاد ما علق بأذهان الجاهلين بالإسلام اليوم بأنه حمل السيف وقتال العدو وانتهى الجهاد، بل الجهاد أعظم من أن يُخَنْدَق في خَنْدَق ضَيِّق؛ هو أن يكون كل فرد من أفراد الأمة المسلمة في بذل جهد مستمر صباح مساء ليحيى الإسلام وتقوى شوكة المسلمين، وتنتشر الدعوة الإسلامية في العالمين، وينالوا رضا الله يوم الوقوف بين يدي خالق الخلائق أجمعين بتزكيتهم لنفوسهم واهتمامهم بمصير أمتهم؛ أي بخلاصهم الفردي والجماعي .
([3])سورة المائدة: من الآية3.
([4])سورة الفتح:28.
([5])سورة غافر:51.
([6])سيرة ابن هشام، 4/466.
([7]) خطب النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات خطبته هذه الجامعة، وفي يوم النحر بمنى خطب خطبة أخرى، وفي أوسط أيام التشريق –وهو يوم النحر الأول-خطبة أخرى، وهي تأكيد لبعض ما جاء في الخطبة الأولى، وتكرار الخطبة في هذه الحجة أمر لابد منه، لحاجة المسلمين إلى ذلك، وليبلغوا عنه ويحسوا بثقل الأمانة الملقاة على عاتقهم، وليبلغوها إلى من لم يحضر إلى يوم القيامة.
([8]) ينكتها: معناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم. صحيح مسلم بشرح النووي، 4/423.
([9]) صحيح الإمام مسلم، كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة، ح2950. سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ح3074.
Read More

إصدار جديد: سنة الله في جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم


يتناول هذا الكتاب قراءة جديدة للسيرة النبوية العطرة؛ وذلك بدراسة الجهاد النبوي من منظور سنن الله تعالى، وتتبع الآيات القرآنية التي نزلت عقب كل معركة من معارك المسلمين في مواجهة أعداء الإسلام واستنباط سنن الله منها، حتى تكون نبراسا يضيء للأمة حاضرها ومستقبلها وسبل حياتها.
وإن تتبع تلك السنن الإلهية في الجهاد النبوي – الواردة في هذا الكتاب - وتدبرها والسير على منهاجها، يخرج الأمة من واقع الارتكاس والانكسار والتردي الذي تصلى به منذ قرون إلى مستقبل النصر والتمكين والاستخلاف في الأرض.
كما أشار الكتاب إلى أن الأمة الإسلامية يمكنها تجاوز واقع البلاء التاريخي دونما استسلام لليأس والقنوط ومن غير تجاهل عقبات الطريق وتحدياته.
وفي الأخير ختمت برسم صورة مشرقة لمستقبل الأمة ومصيرها في التاريخ انطلاقا من نصوص قرآنية وحديثية تبشر المؤمنين بالتمكين لدين الله في الأرض، وانتشار نور الإسلام في العالمين.
Read More